فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ:

وَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ رُكْنِ الرِّدَّةِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الرِّدَّةِ أَمَّا رُكْنُهَا، فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِيمَانِ، إذْ الرِّدَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِيمَانِ، فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِيمَانِ يُسَمَّى رِدَّةً فِي عُرْفِ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهَا فَأَنْوَاعٌ، مِنْهَا الْعَقْلُ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ خُصُوصًا فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَإِنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ ارْتَدَّ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ صَحَّتْ؛ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرُّجُوعِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ الذَّاهِبُ الْعَقْلِ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِقْرَارِ بِظَاهِرِ اللِّسَانِ لَا عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، إذْ هُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَحْكَامَ الْكُفْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا أَنَّ أَحْكَامَ الْإِيمَانِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ يَرْجِعَانِ إلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ الذَّاهِبِ الْعَقْلِ لَا يَصْلُحُ دَلَالَةً عَلَى التَّكْذِيبِ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَيْسَ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ: شَرْطٌ حَتَّى لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ عَقْلَ الصَّبِيِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ طَلَاقُهُ وَإِعْتَاقُهُ وَتَبَرُّعَاتُهُ، وَالرِّدَّةُ مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ فَأَمَّا الْإِيمَانُ فَيَقَعُ مَحْضًا؛ لِذَلِكَ صَحَّ إيمَانُهُ وَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّهُ صَحَّ إيمَانُهُ فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ وَالرِّدَّةِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُمَا أَفْعَالٌ خَارِجَةُ الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ أَفْعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ، وَالْإِقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ دَلِيلُ وُجُودِهِمَا، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُمَا مَعَ وُجُودِهِمَا مِنْهُ حَقِيقَةً لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ- اللَّهُ تَعَالَى- وَالْقَتْلُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الرِّدَّةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، وَالرِّدَّةُ مَوْجُودَةٌ وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِحُّ رِدَّةُ الْمَرْأَةِ عِنْدَنَا؛ لَكِنَّهَا لَا تُقْتَلُ بَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تُقْتَلُ؛ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ- اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا الطَّوْعُ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمُكْرَهِ عَلَى الرِّدَّةِ اسْتِحْسَانًا إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِحَّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ- اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حُكْمُ الرِّدَّةِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: إنَّ لِلرِّدَّةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْمُرْتَدِّ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى تَصَرُّفَاتِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِ أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا إبَاحَةُ دَمِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا؛ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وَكَذَا الْعَرَبُ لَمَّا ارْتَدَّتْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى قَتْلِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ وَيُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُسْلِمَ، لَكِنْ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَمَرْحَبًا وَأَهْلًا بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَبَى نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ طَمِعَ فِي تَوْبَتِهِ، أَوْ سَأَلَ هُوَ التَّأْجِيلَ، أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ يَسْأَلْ هُوَ التَّأْجِيلَ، قَتَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ مُغْرِيَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كَفَرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ إسْلَامِهِ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا ثَلَاثًا، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إلَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ آمُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلَاثًا، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَرَضَتْ لَهُ شُبْهَةٌ حَمَلَتْهُ عَلَى الرِّدَّةِ، فَيُؤَجَّلُ ثَلَاثًا لَعَلَّهَا تَنْكَشِفُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَكَانَتْ الِاسْتِتَابَةُ ثَلَاثًا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ- عَسَى- فَنَدَبَ إلَيْهَا فَإِنْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ عِصْمَتِهِ بِالرِّدَّةِ، وَتَوْبَتِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ، فَإِنْ تَابَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا فَحُكْمُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَنَّهُ إنْ تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَكَذَا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ؛ لِوُجُودِ الْإِيمَانِ ظَاهِرًا فِي كُلِّ كَرَّةٍ؛ لِوُجُودِ رُكْنِهِ، وَهُوَ إقْرَارُ الْعَاقِلِ وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} فَقَدْ أَثْبَتَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْإِيمَانَ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ، وَالْإِيمَانُ بَعْدَ وُجُودِ الرِّدَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ يَضْرِبُهُ الْإِمَامُ وَيُخَلِّي سَبِيلَهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا تَابَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ حَبَسَهُ الْإِمَامُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يَرَى عَلَيْهِ أَثَرَ خُشُوعِ التَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُبَاحُ دَمُهَا إذَا ارْتَدَّتْ، وَلَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِجْبَارُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تُحْبَسَ وَتَخْرُجَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَتُسْتَتَابُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا حُبِسَتْ ثَانِيًا، هَكَذَا إلَى أَنْ تُسْلِمَ أَوْ تَمُوتَ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَزَادَ عَلَيْهِ- تُضْرَبُ أَسْوَاطًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَعْزِيرًا لَهَا عَلَى مَا فَعَلَتْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تُقْتَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلِأَنَّ عِلَّةَ إبَاحَةِ الدَّمِ هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَلِهَذَا قُتِلَ الرَّجُلُ وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَغْلَظُ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ هَذَا رُجُوعٌ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَحُجَجِهِ، وَذَلِكَ امْتِنَاعٌ مِنْ الْقَبُولِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُقُوفِ دُونَ حَقِيقَةِ الْوُقُوفِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا شُرِعَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ بِأَعْلَى الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ إجَابَتِهَا بِأَدْنَاهُمَا، وَهُوَ دَعْوَةُ اللِّسَانِ بِالِاسْتِتَابَةِ، بِإِظْهَارِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالنِّسَاءُ أَتْبَاعُ الرِّجَالِ فِي إجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي الْعَادَةِ، فَإِنَّهُنَّ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ يُسْلِمْنَ بِإِسْلَامِ أَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَقَعُ شَرْعُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهَا وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يُفِيدُ وَلِهَذَا لَمْ تُقْتَلْ الْحَرْبِيَّةُ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَتْبَعُ رَأْيَ غَيْرِهِ، خُصُوصًا فِي أَمْرِ الدِّينِ بَلْ يَتْبَعُ رَأْيَ نَفْسِهِ، فَكَانَ رَجَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ثَابِتًا، فَكَانَ شَرْعُ الْقَتْلِ مُفِيدًا، فَهُوَ الْفَرْقُ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الذُّكُورِ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُجْبِرُهَا مَوْلَاهَا إنْ احْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا، وَيَحْبِسُهَا فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ قَائِمٌ، وَهِيَ مَجْبُورَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ شَرْعًا فَكَانَ الرَّفْعُ إلَى الْمَوْلَى رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ، وَلَا يَطَؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُقْتَلُ، وَإِنْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْبَالِغِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ حُجَجِهِ وَإِيضَاحِ دَلَائِلِهِ لِظُهُورِ الْعِنَادِ وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ فَلَاحِهِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ فَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْهُ مَرْجُوًّا وَالرُّجُوعُ إلَى الدِّينِ مِنْهُ مَأْمُولًا، فَلَا يُقْتَلُ وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَكْفِيهِ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا: صَبِيٌّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، فَبَلَغَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقْتَلُ؛ لِانْعِدَامِ الرِّدَّةِ مِنْهُ إذْ هِيَ اسْمٌ لِلتَّكْذِيبِ بَعْدَ سَابِقَةِ التَّصْدِيقِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ دَلِيلِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ ثُمَّ ارْتَدَّ يُقْتَلُ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ بِوُجُودِ دَلِيلِهَا وَهُوَ الْإِقْرَارُ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْجُودُ مِنْهُ رِدَّةً حَقِيقَةً فَلَا يُقْتَلُ، وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ؟ وَالْحُكْمُ فِي إكْسَابِهِ كَالْحُكْمِ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ حُكْمًا وَسَنَذْكُرُ الْكَلَامَ فِي إكْسَابِ الْمُرْتَدِّ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ- اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَسْتَرِقُّ، وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْكَافِرِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِرْقَاقُهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، إنَّهَا تُسْتَرَقُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إلَّا مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسْوَانِ، فَكَانَ إبْقَاؤُهَا عَلَى الْكُفْرِ مَعَ الرِّقِّ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ إبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَكَذَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ وَصِبْيَانَهُمْ حَتَّى قِيلَ: إنَّ أُمَّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ إيَاسٍ كَانَتْ مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمُرْتَدِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَتَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَانِي، وَإِنَّمَا الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّعَاوُنِ.
وَالْمُرْتَدُّ لَا يُعَاوَنُ، وَمِنْهَا الْفُرْقَةُ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الْمَرْأَةِ كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الرَّجُلِ فَفِيهِ خِلَافٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَلَا تَرْتَفِعُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بِالْإِسْلَامِ وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَسَدَ النِّكَاحُ.
وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَسَدَ النِّكَاحُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَاحُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَمِنْهَا حُرْمَةُ ذَبِيحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلَّةَ لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الْمِلَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ تُحْبَطُ أَعْمَالُهُ لَكِنْ بِنَفْسِ الرِّدَّة عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِشَرِيطَةِ الْمَوْتِ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ حُكْمُ الْمِلْكِ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ، وَحُكْمُ الدَّيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ تَكُونُ أَمْوَالُهُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَزُولُ أَمْوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ تَزُولُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ، أَمْ بِالرِّدَّةِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا عَلَى التَّوَقُّفِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- مِلْكُ الْمُرْتَدِّ لَا يَزُولُ عَنْ مَالِهِ بِالرِّدَّةِ، وَإِنَّمَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ أَوْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمِلْكُ فِي أَمْوَالِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ حُكْمُ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْمُسْلِمِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَعُقْدَةُ تَصَرُّفَاتِهِ مَوْقُوفَةٌ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ كُلُّهُ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ كُلُّهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الْإِسْلَامِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ وَالرِّدَّةُ لَا تُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ: جَوَازُهَا جَوَازُ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ: جَوَازُ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ، فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اخْتِيَارَ الْإِسْلَامِ بِيَدِهِ، فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَخْلُصُ عَنْ الْقَتْلِ، وَالْمَرِيضُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الْمَرَضِ عَنْ نَفْسِهِ، فَأَنَّى يَتَشَابَهَانِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ زَوَالِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرِّدَّةُ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ.
وَالْقَتْلُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْمَوْتِ، فَكَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْمَوْتِ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ الرِّدَّةُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اللَّحَاقُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِأَمْوَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ يُقْتَلُ، فَيَبْقَى مَالُهُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ لِلْحَالِ، إلَّا أَنَّا تَوَقَّفْنَا فِيهِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَادَ تَرْتَفِعُ الرِّدَّةُ مِنْ الْأَصْلِ، وَيُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَكَانَ التَّوَقُّفُ فِي الزَّوَالِ لِلْحَالِ لِاشْتِبَاهِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَ أَنَّ الرِّدَّةَ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِارْتِفَاعِهَا مِنْ الْأَصْلِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَصِحُّ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ سَبَبًا لِلزَّوَالِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ زَائِلًا مِنْ حِينِ وُجُودِ الرِّدَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ سَبَبِهِ، فَلَمْ يُصَادِفْ التَّصَرُّفُ مَحَلَّهُ فَبَطَلَ.
فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا فَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ مَوْقُوفَةً ضَرُورَةً وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَ أَمَتَهُ فَادَّعَى وَلَدَهَا، إنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَحَلَّ مَمْلُوكٌ لَهُ مِلْكًا تَامًّا.
(وَأَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ حَقِّ الْمِلْكِ، ثُمَّ حَقُّ الْمِلْكِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَتَسْلِيمُهُ الشُّفْعَةَ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ، وَالثَّابِتُ لِلشَّفِيعِ حَقٌّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ، وَمُعَاوَضَتُهُ مَوْقُوفَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاوَاةِ.
(وَأَمَّا) الْمُرْتَدَّةُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهَا عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ، فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا فِي مَالِهَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَالِ مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا بِلَا خِلَافٍ، فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا، وَإِذَا عُرِفَ حُكْمُ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ وَحَالُ تَصَرُّفَاتِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهِ، فَحَالُ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسْلِمَ، أَوْ يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ، أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَادَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ مِنْ الْأَصْلِ حُكْمًا، وَجُعِلَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ أَصْلًا، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ صَارَ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ، وَعَتَقَ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرُوهُ وَمُكَاتَبُوهُ إذَا أَدَّى إلَى وَرَثَتِهِ، وَتَحِلُّ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَتُقْضَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا، وَقَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَالِ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةٌ لِكَوْنِهِ مَالًا فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِانْتِهَاءِ حَاجَتِهِ بِالْمَوْتِ وَعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي اللَّحَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّهِ، لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِهِ، فَكَانَ اللَّحَاقُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي كَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ، يُحْكَمُ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ، وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَتَحِلُّ دُيُونُهُ الْمُؤَجَّلَةُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ، وَقَدْ وُجِدَ مَعْنًى.
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَيُؤَدِّي إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْتَقُ، وَإِذَا عَتَقَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ، وَلَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودَ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَإِنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ عَادَ عَلَى حُكْمِ أَمْلَاكِهِ فِي الْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَوْتِ، وَاللُّحُوقُ بِدَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِمَوْتٍ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْمَوْتِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ، فَإِذَا عَادَ يَعُودُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ فَمَا وُجِدَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ بِحَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ جُعِلَ خَلَفًا لَهُ فِي مَالِهِ، فَكَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لَهُ كَأَنَّهُ وَكِيلُهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَهُ قَائِمًا عَلَى حَالِهِ.
وَمَا زَالَ مِلْكُ الْوَارِثِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ، أَوْ بِالْعِتْقِ، فَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْخَلَفِ كَتَصَرُّفِ الْأَصْلِ، بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ وَأَمَّا مَا أَعْتَقَ الْحَاكِمُ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا كَانَ أَدَّى الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ، لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَالْعِتْقُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَمَا أُدِّيَ إلَى الْوَرَثَةِ إنْ كَانَ قَائِمًا أُخِذَ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُمْ عَنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ضَمَانُهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤَدِّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ بَعْدُ، يُؤْخَذُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ.
وَإِنْ عَجَزَ عَادَ رَقِيقًا لَهُ وَلَوْ رَجَعَ كَافِرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْ مَالِهِ وَأَدْخَلَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا قُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ، وَإِنْ وَجَدَتْهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَتْهُ بِالْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَحِقَ وَقُضِيَ بِلَحَاقِهِ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ إلَى الْوَرَثَةِ، فَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْكَافِرُ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَوَجَدَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ هَذَا، وَرُجُوعُهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاللَّحَاقِ سَوَاءٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَكُونُ فَيْئًا لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ أَصْلًا وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَلَوْ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ إلَيْنَا ثَانِيًا، فَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالْقَذْفِ يُؤْخَذُ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ يُلْتَحَقُ بِالْمَوْتِ فَيُورِثُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِصَيْرُورَتِهِ فِي حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمُ مَالِهِ الَّذِي خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِي لَحِقَ بِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مِلْكُهُ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ يَكُونُ فَيْئًا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمَالِ الْمَحْمُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُرْتَدِّ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ فَكَانَ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَاءِ لِسَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّ الْمَالَ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ وَقُضِيَ بِاللَّحَاقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ فَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ» نَفَى أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَوَارِثُهُ مُسْلِمٌ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَرِثَهُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلَيَّ بِالرِّدَّةِ، وَقَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ مُنْكِرٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي كَوْنِهَا سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ، كَالْمَوْتِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ.
فَإِذَا ارْتَدَّ فَهَذَا مُسْلِمٌ مَاتَ، فَيَرِثُهُ الْمُسْلِمُ فَكَانَ هَذَا إرْثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا مِنْ الْكَافِرِ، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ- تَعَالَى وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالرِّدَّةُ إنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ يُمْكِنُ احْتِمَالُ الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ؟ وَذَلِكَ جَائِزٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّ الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؟ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْإِرْثِ أَيْضًا؟ فَلَا يَكُونُ إرْثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ أَيْضًا وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَالِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ الرِّدَّةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ فَيْءٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- هُوَ مِيرَاثٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ كَسْبَ الرِّدَّةِ مِلْكُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ أَهْلُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالرِّدَّةُ لَا تُنَافِيهَا بَلْ تُنَافِي مَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ الرِّقُّ؛ إذْ الْمُرْتَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِرْقَاقَ، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهِ، احْتَمَلَ الِانْتِقَالَ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْمَوْتِ، أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّدَّةَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ حِينِ وُجُودِهَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ زَوَالِهِ فَكَانَ الْكَسْبُ فِي الرِّدَّةِ مَالًا لَا مَالِكَ لَهُ، فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ فَيُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَاللُّقَطَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُورَثُ مِنْ مَالِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْوَارِثِ، وَهِيَ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، أَمْ وَقْتَ الْمَوْتِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ عِنْدَهُمَا بِالْمَوْتِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ، يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرِّدَّةِ لَا غَيْرُ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَهْلًا وَقْتَ الرِّدَّةِ وَرِثَ، وَإِنْ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ.
(وَجْهُ) هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِرْثَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ لَا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ أَمْرٌ لابد مِنْهُ لِلْإِرْثِ.
وَالْقَوْلُ بِالْإِرْثِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ إيجَابُ الْإِرْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَوْتُ يَثْبُتُ الْإِرْثُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الرِّدَّةِ وَزَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ، فِيمَا بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِنَادِ، فَيُشْتَرَطُ دَوَامُ الْأَهْلِيَّةِ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ مُسْلِمًا وَقْتَ الرِّدَّةِ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لَا يُورَثُ وَكَذَا إذَا مَاتَ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَوْ الْمَرْأَةُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ مَوْتِهِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْإِرْثَ يَتْبَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ زَالَ بِالرِّدَّةِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهَا، فَيَثْبُتُ الْإِرْثُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ قَوْلُهُ هَذَا إيجَابُ الْإِرْثِ قَبْلَ الْمَوْتِ قُلْنَا: هَذَا مَمْنُوعٌ بَلْ هَذَا إيجَابُ الْإِرْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي مَعْنَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَوْتِ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَكَانَتْ الرِّدَّةُ مَوْتًا مَعْنًى، وَكَذَا اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- فِيمَا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَضَى الْقَاضِي بِاللَّحَاقِ، إنَّهُ تُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوِرَاثَةِ وَقْتَ الْقَضَاءِ بِاللَّحَاقِ أَمْ وَقْتَ اللَّحَاقِ؟ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقْتَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ وَقْتَ اللَّحَاقِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وَقْتَ الْإِرْثِ وَقْتُ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ الْمُرْتَدِّ إنَّمَا يَزُولُ بِاللَّحَاقِ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْجِزُ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ الْمَتْرُوكِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ الْعَجْزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ، فَإِذَا قُضِيَ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ وَصَارَ الْعَوْدُ بَعْدَهُ كَالْمُمْتَنِعِ عَادَةً، فَكَانَ الْعَامِلُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ هُوَ اللَّحَاقَ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَقْتَئِذٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إلَّا بِالْقَضَاءِ، فَكَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي الزَّوَالِ هُوَ الْقَضَاءَ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمُرْتَدَّةُ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ، وَلَوْ.
ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ قُتِلَ الْأَبُ عَلَى رِدَّتِهِ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ يَرِثُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْإِسْلَامِ قَطْعًا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ لَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَقَ فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ، فَلَا يَرِثُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ مُسْلِمَةٍ وَرِثَهُ مَعَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ مُسْلِمَةٌ، فَكَانَ الْوَلَدُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيَرِثُ أَبَاهُ، وَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَوَلَدَتْ هُنَاكَ ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَرَقُّ وَيَرِثُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْهُ حَتَّى سُبِيَتْ ثُمَّ وَلَدَتْهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مُسْلِمٌ مَرْقُوقُ مُسْلِمٍ تَبَعًا لِأَبِيهِ، مَرْقُوقٌ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَلَا يَرِثُ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ أَسْبَابِ الْحِرْمَانِ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمُرْتَدُّ مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا، أَوْ وَطِئَ أَمَةً مُسْلِمَةً فَوَلَدَتْ لَهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلْأُمِّ وَيَرِثُ أَبَاهُ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ كَافِرَةً لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إسْلَامُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ- وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الدَّيْنِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ: دُيُونُ الْمُرْتَدِّ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا مِيرَاثٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ، إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَرَوَى الْحَسَنُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْهُ أَنَّهُ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَيَقْضِيَ الْبَاقِيَ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ وَقَالَ الْحَسَنُ- رَحِمَهُ اللَّهُ: دَيْنُ الْإِسْلَامِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَدَيْنُ الرِّدَّةِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْإِنْسَانِ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ، وَكَذَا دَيْنُ الْمَيِّتِ يُقْضَى مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ وَارِثِهِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ؛ لِكَوْنِ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِرْثِ، فَكَانَ قَضَاءُ دَيْنِ كُلِّ مَيِّتٍ مِنْ مَالِهِ لَا مِنْ مَالِ وَارِثِهِ وَمَالُهُ كَسْبُ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ فَمَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُقْضَى مِنْهُ الدَّيْنُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِهِ كَسْبُ الْإِسْلَامِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ فَيَقْضِي الْبَاقِيَ مِنْهُ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.